أخرجت ثورة 25 من يناير 2011 الحياة السياسية في مصر من حالة الإنسداد والجفاف، التي ألمّت بها طيلة العقود الماضية، وفتحت أبواب المشاركة السياسية أمام ملايين المصريين، لتدخل مصر مرحلة التحول الديمقراطي، التي تنتقل بموجبها من النظام السلطوي اللاديمقراطي، إلى النظام التعددي الديمقراطي، القائم على المشاركة، والمنافسة الديمقراطية، والتداول السلمي للسلطة، عبر الإنتخابات الحرة النزيهة. وتُعد عملية تأسيس الأحزاب السياسية، التي تعبر عن المرحلة الجديدة من أهم سمات هذه المرحلة، فما هي أهم ملامح التجربة الحزبية الجديدة؟ وما هو مستقبلها؟
لمحة تاريخية
يعود ميلاد التجربة الحزبية بمصر إلى مطلع القرن العشرين، عندما تمخضّت الحركة الوطنية المصرية، في مواجهة الإحتلال البريطاني عن مولد الحزب الوطني بزعامة مصطفى كامل باشا. إلا أن الميلاد الحقيقي لها، جاء بعد قيام ثورة 1919 والتي أفرزت قيادة ثورية ، تبلورت تنظيمياً فيما بعد ، عبر ظهور حزب الوفد بزعامة سعد زغلول باشا، المُعبر عن القوى الثورية، التي حملت لواء تحقيق مطالب الثورة، وإلى جواره جاءت أحزاب أخرى وصفت بأنها أحزاب "الأقلية". وعرفت الحياة السياسية المصرية ثقافة الإنتخابات، وتداول السلطة، بالرغم من تدخلات القصر، والإحتلال، التي أفسدت التجربة وأفرغتها من مضمونها.
وتسبّب فشل التجربة الحزبية في تقديم حل للقضية الوطنية، وإهمالها للقضية الإجتماعية ،في قيام ثورة يوليو 1952 والتي بدأت بإنقلاب عسكري قاده تنظيم "الضباط الأحرار". وتعامل نظام يوليو 1952 مع كان الوضع السابق ،عبر سياسة الهدم الشامل، فقررالإجهاز على التجربة الحزبية عبر قرار إلغاء الأحزاب السياسية، في يناير 1953 بعد سلسلة من الإجراءات إستهدفت إذلال النخبة السياسية الحزبية.
بعدها "أممّت" الدولة السياسة ،بإتباعها لنظام الحزب الواحد أو التنظيم الشمولي الأوحد، والذي تغير إسمه من "هيئة التحرير"، إلى "الإتحاد القومي"، إلى "الإتحاد الإشتراكي" ،إلى "حزب مصر"، إلى "الحزب الوطني"،- المقبور- والذي إحتكرت "إصداراته" السلطة لقرابة 60 عاماً ، فكلها مسميات متعددة لكيان واحد.
العودة الثانية
وفي عام 1976 جاءت التجربة الحزبية الثانية بقرار سلطوي فوقي، عبر إنشاء المنابر السياسية، التي تحولت لاحقاً إلى أحزاب سياسية. وجاءت التجربة الثانية ليس بهدف ترسيخ مبدأ التعددية، أو التعبير عن توازنات سياسية، فضلاً عن تداول السلطة الذي لم يحدث على الإطلاق، بقدر ما جاءت بهدف إضفاء قدر من "الديكور الديمقراطي"، والتعددية الشكلية على النظام الحاكم، خاصة مع توقيع إتفاقية "كامب ديفيد" وقدوم المعونة الأمريكية، التي كانت لها شروط محددة، فكان الهدف هو خلق كيانات هامشية تحيط بالحزب الواحد. وبعدها جاءت تلك اللجنة العجيبة المسماة ب"لجنة الأحزاب السياسية"، التي ترأّسها رئيس مجلس الشورى، الذي يحمل صفة قيادية في الحزب الحاكم، و تمتعت تلك اللجنة بسلطة مطلقة في منح أو منع الشرعية عن أي مشروع لحزب سياسي.
بإختصار كانت التجربة الحزبية بعد عودتها الثانية تجربة مريضة تعاني من خلل بنيوي، وعيوب هيكلية، فكانت أحزاب المعارضة المعروفة – وهي تعد على أصابع اليد الواحدة- ممنوعة من ممارسة العمل السياسي خارج مقارها الحزبية، فضلاً عن معانتها من تكلُّس في قيادتها، ومن غياب الديمقراطية الداخلية، فاقتصر نشاطها على إصدار صحف تعبر عنها، فكان الأمر أشبه بصحف لها أحزاب، وليس أحزاباً لها صحف.
أما بقية أحزاب المعارضة فقد خرجت بالأساس برغبة أمنية، والطريف أنها كانت تحصل على دعم حكومي ، واعتمدت في عضويتها على الروابط العائلية، فلم يعرف الخاصة حتى مجرد أسمائها، فضلاً عن المواطنين العاديين. ولم يكن غريبا أن تندلع ثورة 25 يناير، ولم يكن لتلك الأحزاب أي دور في إشعالها، أو إستمرارها، بل إن غالبية القيادات الحزبية لم تكن لتجرؤ على الدخول إلى ميدان التحرير من الأصل، إبان أيام الثورة.
آثار ثورة يناير
جاءت ثورة 25 يناير خالية من القيادة الثورية التي تقود حركة الشارع ، ومن التنظيم الذي يمثِّلها ويتحدث بإسمها ، و ربما كان هذا ميزة في البداية، إلا أنه تحوّل بعد ذلك إلى ثغرة كبيرة في مسيرتها ، وحتى بعد نجاحها في الإطاحة برأس النظام بتنحي الرئيس المخلوع مبارك لم تفرز ثورة 25 يناير قيادة لها، وبالتالي غاب الحزب أو التنظيم الذي يجمع قواها و يتحدث بإسمها، بعكس الوضع في ثورتي 1919 و1952. ولقد ترك سقوط رأس النظام، وغياب القيادة الثورية، فراغاً سرعان ما ملأتاه القوتان صاحبتا التنظيم على الأرض بحكم الأمر الواقع و ميزان القوى ، المجلس العسكري ، وجماعة الإخوان المسلمين.
كما فتح غياب القيادة الثورية الباب واسعاً فيما بعد، أمام قوى وقفت ضد الثورة بكل قوة كي تدّعي نسبها فيما بعد. كما زادت السيولة الفكرية والتنظيمية الهائلة التي ضربت الشريحة الشبابية الطين بلَّة، فبالرغم من تفجيرها للثورة ،و توحدها في معركة إسقاط النظام، إلا أنه بعد الإطاحة برأسه، تشظّت على عشرات الإئتلافات الثورية، فانقسمت على نفسها سريعاً، ولم ترتب أولوياتها ولم يفرِّق بعضها بين أدوات معركة الهدم وأدوات معركة البناء ، مما منح فرصة مثالية لوجوه النخبة السياسية القديمة لإعادة تدوير نفسها، وعودتها إلى صدارة المشهد، وإعادة إنتاج أخطائها، التي ساهمت في وصول درجة الفساد والإستبداد إلى ما وصلت إليه قبل إندلاع الثورة.
وبعد هدم الثورة للبنية السياسية القديمة ، بدأت تتضح ملامح المرحلة الجديدة، وعادة تعرف المجتمعات بعد الثورات ظاهرة "الإنفجار الحزبي"، المتمثلة في ظهور عدد كبير من الأحزاب السياسية، ولقد أدت عدة عوامل إلى ظهور هذه الظاهرة بمصر بعد نجاح الثورة في الإطاحة بالرئيس المخلوع مبارك، أهمها تغيير البيئة القانونية، و شروط تأسيس الأحزاب، التي صارت بمجرد الإخطار بعد إستيفاء الشروط القانونية، إلى جانب التفكك الحزبي للتيارات السياسية الكبيرة، بحيث خرج أكثر من حزب ليعبر عن نفس التيار، بالإضافة إلى شغور مقعد القيادة الثورية، وعدم وجود حزب يفرض نفسه متحدثاً باسم الثورة.
ولقد وصل عدد الأحزاب السياسية بعد الثورة إلى حوالي 60 حزباً حصل على الترخيص الرسمي، بالإضافة إلى قرابة 100 حزب في قائمة الإنتظار، وتنوعت خلفيتها الفكرية من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، من أحزاب تعبر عن الإسلاميين الجهاديين، إلى أخرى تتحدث باسم الشيوعيين.
ولقد شهدت مصر أول إنتخابات برلمانية بعد نجاح الثورة، في نهاية عام 2011 والتي اتسمت بقدر كبير من النزاهة والحرية، غير أنها أُجريَت في مناخ من الإستقطاب السياسي الذي تفجر منذ إستفتاء 19 مارس على التعديلات الدستورية، الذي نقل الإستقطاب من محدوديته النخبوية إلى القواعد الشعبوية، إذ نقل خلافات النخبة إلى الشارع، و أحاله البعض إلى إستفتاء على الهوية بهدف إستعادة أرضية شعبية مفقودة.
كما أُجريت الإنتخابات في ظل بقاء البنية الإقتصادية – الإجتماعية القديمة على حالها ، إذ لم تُدخِل الثورة أي تغيير عليها، ولقد حملت نتائجها دلالات تستحق التوقف والتأمل. أهم هذه الدلالات هو بقاء المحددات الناظمة للعملية الإنتخابية كما هي، عبر الحضور البارز للظهير الديني والظهير المالي للقوى السياسية صاحبة الصدارة، فقد عزّز الإستقطاب السياسي الحاد من حضور العامل الأول بإستخدام المساجد في الدعاية الحزبية والإنتخابية، ووصف المنافسين من التيارات الأخرى بأوصاف تطعن في مدى إلتزامهم الديني والأخلاقي.
وفي المقابل تحالفت أحزاب سياسية متكتّلة مع الكنيسة، من أجل الحصول على الكتلة التصويتية القبطية. أما حضور رأس المال السياسي فهو من الظهور الطاغٍ بمكان، بما يكفي عن أي وصف، فقد إعتمد عدد من الأحزاب الجديدة في تمويلها، على كبار رجال الأعمال، بل إن بعضها شهد مفارقة مُعبِّرة حيث كان إسم رجل الأعمال الممول للحزب أشهر كثيراً من إسم رئيس الحزب، كما جاء الإنفاق البَذِخ على الدعاية الإنتخابية، عبر وسائل الإعلام المختلفة، وفي الشوارع ليزيد الصورة تأكيداً.
وبالحضور الطاغي للظهيريْن الديني والمالي غابت البرامج والأفكار، فلم تحقق الأحزاب التي إكتفت بطرح برامجها نتائج ذات بال، بسبب عزوفها عن إستخدام دور العبادة في الدعاية الإنتخابية، إلى جانب محدودية قدراتها المالية، وعدم خلطها للعمل السياسي بالعمل الإجتماعي.
كما حملت النتائج مفارقة كبيرة تمثلت في تراجع الحضور السياسي للقوى اليسارية، بالرغم من أن السنوات التي سبقت الثورة شهدت زيادة معدلات الفقر، وإرتفاع وتيرة الإحتجاجات العمالية، وهو مناخ مثالي لإنتشار الأفكار اليسارية، إلا أن الخطاب اليساري ظل خطاباً نخبوياً حبيس الصالونات المغلقة، يصعب على البسطاء في الشارع فهمه والتفاعل معه، ولم يسع للإنتشار والعمل في الشارع، إلى جانب ضعف القدرات المالية للأحزاب اليسارية.
وجاءت المفارقة الثانية في مجيء التيار السلفي كثاني أكبر قوة سياسية ، وفق نتائج الإنتخابات البرلمانية، بالرغم من حداثة عهده بالعمل السياسي، وبالرغم من موقفه المقاطع للسياسة برُمّتها قبل الثورة، إذ كانت غالبية ذلك التيار تحرِّم العملية السياسية بالكلية، من الأحزاب، إلى الإنتخابات، إلى دخول البرلمان، وكان موقفها يقف على أرضية العقيدة "الولاء والبراء"، وليس على أرضية الشريعة "المصالح والمفاسد".
كما أن غالبية القوى السلفية وقفت ضد الثورة بكل قوة، وحتى قبل التنحي ببضعة أيام ظلت على موقفها منها، وتراوحت رؤيتها للثورة من كونها "فتنة"، أو "مؤامرة خارجية"، أو "خروج على ولي الأمر أو الحاكم"، ولم يخرج عن هذا الموقف إلا حالات إستثنائية، تُعد على أصابع اليد من القيادات السلفية المعروفة. ثم إنقلب موقف القيادات السلفية من الزمهرير إلى الهجير دفعة واحدة ، فصار ما كان حراماً بالأمس حلالاً اليوم، فقفزت على ثمار الثورة التي وقفت ضدها، دون أن تتقدم بإعتذار عن موقفها السابق، ودون أن تقدم على عملية نقد ذاتي ومراجعات فكرية تؤصِّل لتحولها الكبير.
ثم جاءت الإنتخابات الرئاسية لتكشف عن مفارقة أخرى، إذ غابت الأحزاب السياسية عن التأثير في مجرياتها، فلم يكن المرشحون أصحاب المراكز الخمسة الأولى – عدا الأول- من ذوي الإنتماءات الحزبية، وحتى جماعة الإخوان المسلمين عندما قررت التقدم بمرشح رئاسي، لم يأت القرار عن طريق حزبها، وإنما جاء عبر مجلس شورى الجماعة وهو أمر يحمل دلالة بليغة.
نظرة إلى المستقبل
ومن المنتظر أن يستغرق قيام حياة حزبية سليمة بعض الوقت، ريثما تتبلور خريطة حزبية واضحة المعالم، تتكون من أحزاب حقيقية، تعبر عن مختلف الشرائح الفكرية والإجتماعية للمجتمع المصري. وهو ما يستلزم إجراء حوار وطني حقيقي، بين مختلف القوى السياسية المتواجدة على المسرح السياسي، بهدف خلق توافق وطني حول المباديء الأساسية التي تمثل أرضية مشتركة ، و وضع ضوابط محدة للعمل الحزبي والسياسي، تمنع التوظيف السياسي والحزبي لدور العبادة والمناسبات الدينية ، كما تضع حداً للإنفاق على الحملات الإنتخابية وتحظر شراء الأصوات.
فقد برزت مؤخراً ظاهرة التوظيف الحزبي للمنابر والمناسبات الدينية مثل صلاة التراويح و صلاة العيد، عبر تنافس الأحزاب على السيطرة على المساجد والساحات المخصصة لأداء الصلاة، من أجل إغتنام الفرصة والقيام بدعاية حزبية، ولو استمر الحال على هذا المنوال، قد يطالب البعض قريباً بإنشاء قسم للأحزاب السياسية في وزارة الأوقاف!.
وتجدر الإشارة إلى أنه لا حياة سياسية سليمة ،إلا بعودة الدولة إلى دورها الإقتصادي والإجتماعي تجاه مواطنيها، وبعودة الدولة إلى دورها ستتغير المعادلة الإنتخابية عبر عدة محددات، أهمها تفكيك المنظومة الإقتصادية الحالية المشوهة ، مما سيحجِّم من الدور الكبير الذي يلعبه رجال الاعمال في عدد من الأحزاب السياسية.
كما أن عودة الدولة لدورها ستدفع بعدد كبير من المواطنين إلى ساحة العمل الحزبي، ممن تمنعهم دوّامة أمورهم المعيشية من الإنضمام لأحزاب سياسية، حيث يضطر الكثيرون للعمل عملاً إضافياً للوفاء بمتطلبات المعيشة، مما يجعل من التفكير في الإنضمام لحزب سياسي ترفاً بعيد المنال، فضلاً عن معاناة الكثيرين من البطالة، التي تجعلهم فريسة للإحباط الشديد، الذي يُقعِدهم عن أي إهتمام بالعمل العام.
كما أنها ستضع حداً لظاهرة خلط العمل الحزبي بالعمل الإجتماعي "الخيري" ، ممن يستغلون حاجة المواطنين بهدف الحصول على أصواتهم، ففي كثير من الأحيان ، يعطي المواطن صوته لحزب أو لمرشح بعينه، ليس عن قناعة بشخصه أوتوجهه بقدر ما هو عرفان منه لمن وقف بجانبه، عندما تخلّت الدولة عنه وتركته وحيداً مجرّداً يواجه مصيره بنفسه.
فلابد من وضع حدٍ فاصل، بين العمل الحزبي الذي تقوم به الأحزاب السياسية، والعمل الإجتماعي"الخيري"، الذي تقوم به الجمعيات الأهلية دون صبغه بلون سياسي. ويقع العبء الأكبر على الموجة الشبابية العاتية التي ألقتها الثورة في بحر السياسية الراكد، ومدى إستيعابها لدروس الأشهر الماضية، ومدى مسارعتها للخروج من حالة السيولة الفكرية والتنظيمية، لتشكيل كيانات سياسية وإجتماعية تحمل مطالب الثورة وتسعى إلى تحقيقها، فيبدو أن البعض لا يدرك الفارق بين وسائل الهدم و وسائل البناء، ويخلط بين وظيفة الحركة الإحتجاجية أو جماعة الضغط الجماهيري، ووظيفة الحزب السياسي، فآليات التأثير في التطورات السياسية تختلف من مرحلة إلى أخرى.
الحياة الحزبية الصحية من أهم سمات التطور الديمقراطي للمجتمع، ويحتاج إنطلاقها إلى تضافر الجهود بين مختلف القوى السياسية، وستتكفّل الممارسة العملية، بفرز الغث من السمين من كل هذا العدد الكبير من الأحزاب السياسية، لإنضاج التجربة الحزبية الجديدة، ليكون لدينا تعددية حقيقية، تتنافس فيها عدة أحزاب قوية، تمتلك المقومات الفكرية، والقدرات التنظيمية، والإمكانات المالية، وتتمتع بالديمقراطية الداخلية البعيدة عن الشخصنة والفردية، وتمثل قواعد جماهيرية حقيقية، فلا تكن مجرد صالونات نخبوية، فالتعددية الحزبية الناضجة شرط أساسي لإنطلاق التجربة الديمقراطية.
[ينشر بالإتفاق مع الكاتب عن جريدة "القدس العربي"]